تفسیر فتح القدیر:
{ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } هذه الجملة يجوز أن تكون صفة ل { كتاباً }، وأن تكون حالاً منه، لأنه وإن كان نكرة، فقد تخصص بالصفة، أو مستأنفة لبيان ما يحصل عند سماعه من التأثر لسامعيه، والاقشعرار التقبض، يقال: اقشعرّ جلده: إذا تقبض، وتجمع من الخوف. والمعنى: أنها تأخذهم منه قشعريرة. قال الزجاج: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرّت جلود الخائفين لله { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ } إذا ذكرت آيات الرحمة. قال الواحدي: وهذا قول جميع المفسرين، ومن ذلك قول امرىء القيس:
فبتّ أكابد ليل التمام ... والقلب من خشية مقشعر
وقيل: المعنى: أن القرآن لما كان في غاية الجزالة، والبلاغة، فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته اقشعرّت الجلود منه إعظاماً له، وتعجباً من حسنه، وبلاغته ثم تلين جلودهم، وقلوبهم { إلى ذِكْرِ الله } عدّى تلين بإلى لتضمينه فعلاً يتعدّى بها، كأنه قيل: سكنت، واطمأنت إلى ذكر الله لينة غير منقبضة، ومفعول ذكر الله محذوف، والتقدير: إلى ذكر الله رحمته، وثوابه، وجنته، وحذف للعلم به. قال قتادة: هذا نعت أولياء الله نعتهم بأنها تقشعرّ جلودهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع وهو: من الشيطان، والإشارة بقوله: { ذلك } إلى الكتاب الموصوف بتلك الصفات، وهو: مبتدأ، و { هُدَى الله } خبره، أي: ذلك الكتاب هدى الله { يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء } أن يهديه من عباده. وقيل: إن الإشارة بقوله: { ذلك } إلى ما وهبه الله لهؤلاء من خشية عذابه، ورجاء ثوابه { وَمَن يُضْلِلِ الله } أي: يجعل قلبه قاسياً مظلماً غير قابل للحقّ { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يهديه إلى الحق، ويخلصه من الضلال. قرأ الجمهور : { من هاد } بغير ياء. وقرأ ابن كثير، وابن محيصن بالياء.
الكتاب : فتح القدير.
المؤلف : الشوكاني (1173هـ ـ 1250هـ، 1759-1834م).